فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ}.
شروعٌ في بيانِ حالِ المُذبذبين إثرَ بيانِ حالِ المُجاهرين أي ومنهُم من يعبدُه سبحانه وتعالى على طَرَفٍ من الدِّين لا ثباتَ له فيه كالَّذي ينحرفُ إلى طَرَفِ الجيشِ فإنْ أحسَّ بظَفَرٍ قَرَّ وإلا فَرَّ {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} أي دنيويٌّ من الصَّحَّةِ والسَّعةِ {اطمأن بِهِ} أي ثبتَ على ما كانَ عليهِ ظاهرًا لا أنَّه اطمأنَّ به اطمئنانَ المُؤمنينَ الذينَ لا يلويهم عنه صارفٌ ولا يثنيهم عاطفٌ. {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} أي شيءٌ يُفتتنُ به من مكروهٍ يعتريه في نفسِه أو أهلِه أو مالِه. {انقلب على وَجْهِهِ} رُوي أنَّها نزلتْ في أعاريبَ قدمُوا المدينةَ وكانَ أحدُهم إذَا صحَّ بدنُه ونُتجتْ فرسُه مُهرًا سَرِيًّا وولدتِ امرأتُه ولدًا سَويًّا وكثُر مالُه وماشيتُه قال: ما أصبتُ منذُ دخلتُ في ديني هذا إلاَّ خَيْرًا واطمأنَّ وإن كانَ الأمرُ بخلافِه قال: ما أصبتُ إلاَّ شرًّا وانقلبَ. وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه: أنَّ يهُوديًّا أسلمَ فأصابتْهُ مصائبُ فتشاءَم بالإسلامِ فأتَى النبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فقال: أقِلْني، فقال عليه السلام: «إنَّ الإسلامَ لا يُقال». فنزلت. وقيل: نزلتْ في المؤلَّفةِ قلوبُهم.
{خَسِرَ الدنيا والآخرة} فقدَهُما وضيَّعهما بذهابِ عصمتِه وحبوطِ عملِه بالارتدادِ. وقرئ خاسرَ بالنَّصبِ على الحالِ، والرَّفعُ على الفاعليةِ. ووضعُ الظَّاهرِ موضعَ الضَّميرِ تنصيصًا على خُسرانِه أو على أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ {ذلك} أي ما ذُكر من الخُسران وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ بكونه في غايةِ ما يكونُ {هُوَ الخسران المبين} الواضحُ كونُه خُسرانًا إذ لا خُسرانَ مثله.
{يَدْعُو مِن دُونِ الله} استئنافٌ مبيِّنٌ لعِظم الخُسرانِ أي يعبد مُتجاوزًا عبادةَ الله تعالى: {مَا لاَ يَضُرُّهُ} إذا لم يعبدْهُ {وما لاَ يَنفَعُهُ} إنْ عبدَهُ أي جمادًا ليسَ من شأنِه النَّفعُ كما يُلوِّحُ به تكريرُ كلمةِ ما {ذلك} الدعاء {هُوَ الضلال البعيد} عن الحقِّ والهُدى مستعارٌ من ضلالِ مَن أبعدَ في التَّيهِ ضالًا عن الطَّريقِ {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} استئنافٌ مسوق لبيانِ مآلِ دُعائِه المذكورِ وتقريرِ كونِه ضلالًا بعيدًا مع إزاحةِ ما عسى يُتوَّهم من نفيِ الضَّررِ عن معبودِه بطريقِ المباشرةِ نفيه عنه بطريق التَّسبيبِ أيضًا فالدعاء بمعنى القول واللاَّمُ داخلةٌ على الجملة الواقعةِ مقولًا له ومَن مبتدأٌ وضرُّه مبتدأٌ ثانٍ خبرُه أقربُ والجملة صلة للمبتدأ الأوَّلِ وقوله تعالى: {لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير} جوابٌ لقسم مقدَّرٍ هو جوابه خبرٌ للمبتدأ الأولِ، وإيثارُ مَن على مَا مع كون معبودِه جمادًا وإيرادُ صيغة التَّفضيل مع خلوِّه عن النَّفع بالمرَّةِ للمبالغة في تقبيح حاله والإمعانِ في ذمِّه أي يقول ذلك الكافرُ يوم القيامةِ بدعاء وصُراخٍ حين يرى تضرُّرَه بمعبوده ودخولَه النَّارَ بسببه ولا يرى منه أثرَ النَّفعِ أصلًا لمن ضرُّه أقربُ من نفعِه، والله لبئسَ النَّاصرُ هو ولبئسَ الصَّاحبُ هو فكيف بما هو ضررٌ محضٌ عارٍ عن النَّفعِ بالكلِّيةِ، ويجوزُ أن يكون يدعُو الثَّاني إعادةً للأولِ لا تأكيدًا له فقط بل وتمهيدًا لما بعده من بيانِ سوءِ حالِ معبودِه إثرَ بيانِ سوءِ حال عبادتِه بقوله تعالى: {ذلك هُوَ الضلال البعيد} كأنَّه قيل من جهته تعالى بعد ذكر عبادتِه لما لا يضرُّه ولا ينفعُه يدعو ذلك ثم قيلَ لمَن ضُرُّه أقربُ من نفعِه: والله لبئسَ المَوْلى ولبئس العَشيرُ، فكلمة مَن وصيغةُ التَّفضيلِ للتهكُّمِ به وقيل: اللاَّمُ زائدةٌ ومَنْ مفعول يدعُو، ويؤيِّدُه القراءة بغير لامٍ أي يعبد من ضره أقربُ من نفعه وإيراد كلمةِ مَن وصيغة التَّفضيلِ تهكُّمٌ به أيضًا والجملة القسميةُ مستأنفة. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ}.
شروع في حال المذبذبين أي ومنهم من يعبده تعالى كائنًا على طرف من الدين لا ثبات له فيه كالذي يكون في طرف الجيش فإن أحس بظفر قر وإلا فر ففي الكلام استعارة تمثيلية، وقوله تعالى: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} الخ تفسير لذلك وبيان لوجه الشبه، والمراد من الخير الخير الدنيوي كالرخاء والعافية والولد أي إن أصابه ما يشتهي {اطمأن بِهِ} أي ثبت على ما كان عليه ظاهرًا لا أنه اطمأن به اطمئنان المؤمنين الذين لا يزحزحهم عاصف ولا يثنيهم عاطف {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} أي شيء يفتن به من مكروه يعتريه في نفسه أو أهله أو ماله {انقلب على وَجْهِهِ} أي مستوليًّا على الجهة التي يواجهها غير ملتفت يمينًا وشمالًا ولا مبال بما يستقبله من حرار وجبال، وهو معنى قوله في الكشاف: طار على وجهه وجعله في الكشف كناية عن الهزيمة، وقيل هو هاهنا عبارة عن القلق لأنه في مقابلة اطمأن، وأيًّا ما كان فالمراد ارتد ورجع عن دينه إلى الكفر.
أخرج البخاري ابن أبي حاتم ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: كان الرجل يقدم المدينة فإذا ولدت امرأته غلامًا ونتجت خيله قال: هذا دين صالح وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء، وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد قال: أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده فتشاءم من الإسلام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقلني فقال عليه الصلاة والسلام: «إن الإسلام لا يقال» فقال: لم أصب من ديني هذا خيرًا ذهب بصري ومالي ومات ولدي فقال صلى الله عليه وسلم: «يا يهودي الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة» فنزلت هذه الآية، وضعف هذا ابن حجر، وقيل: نزلت في شيبة بن ربيعة أسلم قبل ظهوره عليه الصلاة والسلام وارتد بعد ظهوره وروى ذلك عن ابن عباس، وعن الحسن أنها نزلت في المنافقين {خَسِرَ الدنيا والآخرة} جملة مستأنفة أو بدل من {انقلب} كما قال أبو الفضل الرازي أو حال من فاعله بتقدير قد أو بدونها كما هو رأي أبي حيان، والمعنى فقد الدنيا والآخرة وضيعهما حيث فاته ما يسره فيهما.
وقرأ مجاهد وحميد والأعرج وابن محيصن من طريق الزعفراني وقعنب والجحدري وابن مقسم {خاسر} بزنة فاعل منصوبًا على الحال لأن إضافته لفظية، وقرئ: {خاسر} بالرفع على أنه فاعل {فِتْنَةٌ انقلب} وفيه وضع الظاهر موضع المضمر ليفيد تعليل انقلابه بخسرانه، وقيل: إنه من التجريد ففيه مبالغة، وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو خاسر، والجملة واردة على الذم والشتم {ذلك} أي ما ذكر من الخسران، وما فيه من معنى البعد للإيذان بكونه في غاية ما يكون، وقيل أن أداة البعد لكون المشار إليه غير مذكور صريحًا {هُوَ الخسران المبين} أي الواضح كونه خسرانًا لا غير.
{يَدْعُواْ مِن دُونِ الله} قيل استئناف ناع عليه بعض قبائحه، وقيل استئناف مبين لعظم الخسران، ويجوز أن يكون حالًا من فاعل {انقلب} وما تقدمه اعتراض، وأيًّا كان فهو يبعد كون الآية في أحد من اليهود لأنهم لا يدعون الأصنام وإن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله.
والظاهر أن المدعو الأصنام لمكان ما في قوله تعالى: {مَا لاَ يَضُرُّهُ وما لاَ يَنفَعُهُ} والمراد بالدعاء العبادة أي يعبد متجاوزًا عبادة الله تعالى ما لا يضره إن لم يعبده وما لا ينفعه إذا عبده، وجوز أن يراد بالدعاء النداء أي ينادي لأجل تخليصه مما أصابه من الفتنة جمادًا ليس من شأنه الضر والنفع، ويلوح بكون المراد جمادًا كذلك كما في إرشاد العقل السليم تكرير كلمة ما {ذلك} أي الدعاء {هُوَ الضلال البعيد} عن الحق والهدى مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضالًا عن الطريق.
{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} استئناف يبين مآل دعائه وعبادته غير الله تعالى ويقرر كون ذلك ضلالًا بعيدًا من إزاحة ما عسى أن يتوهم من نفي الضرر عن معبوده بطريق المباشرة نفيه عنه بطريق التسبب أيضًا فالدعاء هنا بمعنى القول كما في قول عنترة:
يدعون عنترة الرماح كأنها ** أشطان بئر في لبان الأدهم

واللام داخلة في الجملة الواقعة مقولًا له وهي لام الابتداء ومن مبتدأ و{ضَرُّهُ أَقْرَبُ} مبتدأ وخبر والجملة صلة له، وقوله تعالى: {لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير} جواب قسم مقدر واللام فيه جوابية وجملة القسم وجوابه خبر {مِنْ} أي يقول الكافر يوم القيامة يرفع صوت وصراخ حين يرى تضرره بمعبوده ودخوله النار بسببه ولا يرى منه أثرًا مما كان يتوقعه منه من النفع لمن ضره أقرب تحققًا من نفعه: والله لبئس الذي يتخذ ناصرًا ولبئس الذي يعاشر ويخالط فكيف بما هو ضرر محض عار عن النفع بالكلية، وفي هذا من المبالغة في تقبيح حال الصنم والإمعان في ذمه ما لا يخفى، وهو سر إيثار من على ما وإيراد صيغة التفضيل، وهذ الوجه من الإعراب اختاره السجاوندي والمعنى عليه مما لا إشكال فيه.
وقد ذهب إليه أيضًا جار الله، وجوز أن يكون {يَدْعُو} هنا إعادة ليدعو السابق تأكيد له وتمهيدًا لما بعد من بيان سوء حال معبوده إثر معبوده إثر بيان سوء حال عبادته بقوله تعالى: {ذلك هُوَ الضلال البعيد} [الحج: 12] كأنه قيل من جهته سبحانه بعد ذكر عبادة الكافر ما لا يضره ولا ينفعه يدعو ذلك ثم قيل لمن ضره بكونه معبودًا أقرب من نفعه بكونه شفعيًّا والله لبئس المولى الخ، ولا تناقض عليه أيضًا إذ الضر المنفي ما يكون بطريق المباشرة والمثبت ما يكون بطريق التسبب، وكذا النفع المنفي هو الواقعي والمثبت هو التوقعي، قيل ولهذا الإثبات عبر بمن فإن الضر والنفع من شأنهما أن يصدرا عن العقلاء، وفي إرشاد العقل السليم أن يراد كلمة من وصيغة التفضيل على تقدير أن يكون ذلك إخبارًا من جهته سبحانه عن سوء حال معبود الكفرة للتهكم به.
ولا مانع عندي أن يكون ذلك كما في التقدير الأول للمبالغة في قبيح حال الصنم والإمعان في ذمه.
واعترض ابن هشام على هذا الوجه بأن فيه دعوى خلاف الأصل مرتين إذ الأصل عدم التوكيد والأصل أن لا يفصل المؤكد عن توكيده ولاسيما في التوكيد اللفظي، وقال الأخفش: إن {يَدْعُو} بمعنى يقول واللام للابتداء ومن موصول مبتدأ صلته الجملة بعده وخبره محذوف تقديره إله أو إلهي، والجملة محية بالقول.
واعترض بأنه فاسد المعنى لأن هذا القول من الكافر إنما يكون في الدنيا وهو لا يعتقد فيها أن الأوثان ضرها أقرب من نفعها.
وأجيب بأن المراد إنكار قولهم بألوهية الأوثان إلا أن الله تعالى عبر عنها بما ذكر للتهكم.
نعم الأولى أن يقدر الخبر مولى لأن قوله تعالى: {لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير} أدل عليه، ومع هذا لا يخفى بعد هذا الوجه، وقيل: {يَدْعُو} مضمن معنى يزعم وهي ملحقة بأفعال القلوب لكون الزعم قولًا مع اعتقاد.
واللام ابتدائية معلقة للفعل ومن مبتدأ وخبرها محذوف كما في الوجه السابق، والجملة في محل نصب بيدعو، وإلى هذا الوجه أشار الفارسي ولا يخفى عليك ما فيه.
وقال الفراء: إن اللام دخلت في غير موضعها والتقدير يدعو من لضره أقرب من نفعه فمن في محل نصب بيدعو.
وتعقبه أبو حيان وغيره بأنه بعيد لأن ما في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول، وقال ابن الحاجب: قيل اللام زائدة للتوكيد ومن مفعول يدعو وليس بشيء لأن اللام المفتوحة لا تزاد بين الفعل ومفعوله لَكِن قوي القول بالزيادة هنا بقراءة عبد الله {يَدْعُو} من ضره بإسقاط اللام، وقيل: {يَدْعُو} بمعنى يسمى {وَمِنْ} مفعوله الأول ومفعوله الثاني محذوف أي إلهًا، ولا يخف عليك ما فيه، وقيل: إن يدعو ليست عاملة فيما بعدها وإنما هي عاملة في ذلك قبلها وهو موصول بمعنى الذي، ونقل هذا عن الفارسي أيضًا، وهو على بعده لا يصح إلا على قول الكوفيين إذ يجيزون في اسم الإشارة مطلقًا أن يكون موصولًا، وأما البصريون فلا يجيزون إلا في ذا بشرط أن يتقدمها الاستفهام بما أومن، وقيل هي عاملة في ضمير محذوف راجع إلى ذلك أي يدعوه، والجملة في موضع الحال والتقدير {ذلك هُوَ الضلال البعيد} مدعوًا وفيه مع بعده أن {يَدْعُو} لا يقدر بمدعوا وإنما يقدر بداعيًّا والذي يقدر بمدعوا إنما هو يدعى المبني للمفعول، وقيل: {يَدْعُو} عطف على {يدعو} [الحج: 12] الأول وأسقط حرف العطف لقصد تعداد أحوال ذلك المذبذب واللام زائدة و{مِنْ} مفعول {يَدْعُو} وهي واقعة على العاقل والدعاء في الموضعين إما بمعنى العبادة وإما بمعنى النداء، والمراد إما بيان حال طائفة منهم على معنى أنهم تارة يدعون ما لا يضر ولا ينفع وتارة يدعون من ضره أقرب من نفعه، وأما بيان حال الجنس باعتبار ما تحته على معنى أن منهم من يدعو ما لا يضر ولا ينفع ومنهم من يدعو من ضره أقرب من نفعه وهو كما ترى، وبالجملة أحسن الوجوه أولها. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ}.
شروع في حال المذبذبين، إثر بيان حال المهاجرين. أي: ومنهم من يعبده تعالى على طرف من الدين، لا في وسطه وقلبه. وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم، لا على سكون وطمأنينة. كالذي ينحرف إلى طرف الجيش. فإن أحسّ بظفر وغنيمة قرّ وإِلّا فَرَّ: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} أي: دنيويّ من صحة وسعة: {اطْمَانَّ بِهِ} أي: ثبت على ما كان عليه ظاهرًا: {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} أي: ما يفتتن به من مكروه ينزل به: {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} أي: رجع إلى ما كان عليه من الكفر: {خَسِرَ} أي: بهذا الانقلاب: {الدُّنْيَا وَالآخرةَ} أي: ضيّعهما بذهاب عصمته، وحبوط عمله، بالارتداد: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} أي: الواضح الذي لا يخفى على ذي بصيرة.
تنبيه:
قال ابن جرير: يعني جل ذكره بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ} الخ إعرابا كانوا يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مهاجرين من باديتهم. فإن نالوا رخاء، من عيش بعد الهجرة، والدخول في الإسلام، أقاموا على الإسلام. وإلا ارتدوا على أعقابهم. وبنحو الذي قلنا قال أهل التأويل. ثم أسنده من طرق.
وهذا مما يؤيد أن السورة مدنية كما قاله جمع. وتقدم ذلك. وقوله تعالى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وما لا يَنْفَعُهُ} أي: حال ثابتة من فاعل انقلب والأولى خسر ولذلك قرئ {خاسر} أي: ارتد عن دين الله يدعو من دونه آلهة لا تضره، إن لم يعبدها في الدنيا، ولا تنفعه في الآخرة إن عبدها- وقال أبو السعود: يدعو استئناف مبين لعظيم الخسران: {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} أي: عن الحق والهدى.
{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [13].
{يَدْعُو} أي: هذا المنقلب على وجهه، إذا أصابته فتنة: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} أي: وثنًا أو صنمًا، ضره في الدنيا بالذل والخزي وفي الآخرة بالعذاب، أسرع إليه من نفعه الذي يتوقعه بعبادته، وهو الشفاعة والتوسل به إلى الله تعالى. فاللام زائدة في المفعول به، وهو مَنْ كما زيدت في قوله تعالى: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72]، في وجه. وذكر أن ابن مسعود كان يقرؤه: {يَدْعُو مَنْ ضَرُّهُ} بغير لام. وهي مؤيدة للزيادة. وضره مبتدأ، وأقرب خبر. وفي الآية وجوه كثيرة هذا أظهرها. وإثبات الضرر له هنا، باعتبار معبوديته. ونفيُه قبلُ باعتبار نفسه. والآية بمثابة الاستدراك أو الإضراب عما قبلها، بإثبات ضر محقق لاحق لعابده، تسفيهًا وتجهيلًا لاعتقاده فيه أنه يستنفع به حين يستشفع به وإيراد صيغة التفضيل، مع خلوه عن النفع بالمرة، للمبالغة في تقبيح حاله، والإمعان في ذمه: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} أي: الناصر له: {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} أي: المصاحب له. اهـ.